فصل: تفسير الآيات (71- 74):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.التفسير الإشاري:

قال نظام الدين النيسابوري:
التأويل: {ولو يؤاخذ الله} النفوس الناسية {بما ظلمت} على القلوب والأرواح {ما ترك على} أرض البشرية صفة من صفات الحيوانية، ولكن يؤخر أهل السعادة إلى أجلهم وهو إفناء صفات النفس بصفات القلب والروح في حينه وأوانه، ويؤخر أهل الشقاء إلى أوان العكس من ذلك. {ويجعلون لله ما يكرهون} أي يعاملون الله بأعمال يكرهون أن يعاملهم بها غيرهم وتسوّل لهم أنفسهم أن تلك المعاملة حسنة، والله أنزل من سماء العزة ماء بيان القرآن فأحيا به أرض قلوب الأمم بعد موتها باختلافهم على أنبيائهم {إن في ذلك لآية لقوم يسمعون} كلام الله من الله {وإن لكم في الأنعام} النفوس {لعبرة نسقيكم مما في بطونه من بين فرث} إلخ.اطر الشيطاني {ودم} إلخ.اطر النفساني {لبنًا خالصًا} من الإلهام الرباني {سائغًا للشاربين} جائزًا لأهل هذا الشرب {ومن ثمرات} نخيل الطاعات وأعناب المجاهدات {تتخذون منه سكرًا} هو ما يجعل منها شرب النفس فتسكر النفس فتارة تميل عن الحق والصراط المستقيم ميلان السكران، وتارة تظهر رعوناتها بالأفعال والأحوال رياء وسمعة وشهوة.
والرزق الحسن ما يكون منه شرب القلب والروح فيزداد منه الشوق والمحبة والصدق والطلب:
شربت الحب كأسًا بعد كأس ** فما نفد الشراب وما رويت

{وأوحى ربك إلى النحل} إشارة إلى حال السالك السائر {أن اتخذي من الجبال بيوتًا} أراد الاعتزال عن الخلق والتبتل إلى الله. كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يتحنث في غار حراء أسبوعًا وأسبوعين وشهرًا، ولابد أن يتنظف كما أن النحل يحترز عن التلوث، وفيه أن نحل الأرواح اتخذت من جبال النفوس بيوتًا ومن شجر القلوب ومما يعرشون من الأسرار {ثم كلي من الثمرات فاسلكي سبل ربك} نظير قوله: {كلوا من الطيبات واعملوا صالحًا} [المؤمنون: 51]. فثمرات البدن الأعمال الصالحات، وثمرات النفوس الرياضيات ومخالفات الهوى، وثمرات القلوب ترك الدنيا والتوجه إلى المولى، وثمرات الأسرار شواهد الحق والتطلع على الغيوب والتقرب إلى الله، وهذه كلها أغذية نحل الأرواح فإنها بقوّة هذه الأغذية تسلك السبل إلى أن تصل إلى المقعد الصدق عند مليكها، فيكون غذاؤها مكاشفات الحق ومشاهداته فتبيت عند ربها يطعمها ويسقيها، فحينئذ يخرج من بطونها شراب الحكم والمواعظ مختلف الألوان من المعاني والأسرار والدقائق والحقائق {فيه شفاء} للقلوب الناسية القاسية عن ذكر الله {والله خلقكم} أخرجكم من العدم إلى الوجود {ثم يتوفاكم} عن الوجود المجازي {ومنكم من يرد إلى أرذل العمر} وهو مقام الفناء في الله {لكيلا يعلم} بعد فناء علمه شيئًا يعلمه بل يعلم بربه الأشياء كما هي والله أعلم بالصواب. اهـ.

.تفسير الآيات (71- 74):

قوله تعالى: {وَاللَّهُ فَضَّلَ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ فِي الرِّزْقِ فَمَا الَّذِينَ فُضِّلُوا بِرَادِّي رِزْقِهِمْ عَلَى مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَهُمْ فِيهِ سَوَاء أَفَبِنِعْمَةِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ (71) وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ بَنِينَ وَحَفَدَةً وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ أَفَبِالْبَاطِلِ يُؤْمِنُونَ وَبِنِعْمَتِ اللَّهِ هُمْ يَكْفُرُونَ (72) وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَمْلِكُ لَهُمْ رِزْقًا مِنَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ شَيْئًا وَلَا يَسْتَطِيعُونَ (73) فَلَا تَضْرِبُوا لِلَّهِ الْأَمْثَالَ إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ (74)}

.مناسبة الآيات لما قبلها:

قال البقاعي:
ولما ذكر المفاوتة في الأعمار المنادية بإبطال الطبائع الموجبة للمسابقة إلى الاعتبار لأولي الأبصار للخوف كل لحظة من مصيبة الموت، ثنى بالمفاوتة في الأرزاق فقال تعالى: {والله} أي الذي له الأمر كله {فضل بعضكم} أيها الناس {على بعض}.
ولما كانت وجوه التفضيل كثيرة، وكان التفضيل في المعاش الذي يظن الإنسان أن له قدرة على تحصيله، وكانت المفاوتة فيه أدل على تمام القدرة والفعل بالاختيار الذي السياق له، قال تعالى: {في الرزق} أي ولربما جعل الضعيف العاجز الجاهل أغنى من القوي المحتال العالم، فاتقوا الله وأجملوا في الطلب، وأقبلوا بجميع قلوبكم على ما ينفعكم من الاستبصار؛ قال الإمام أبو نعيم في الحلية: حدثنا سليمان بن أحمد ثنا أحمد ثنا أحمد بن أحمد بن عمرو الخلال قال: سمعت ابن أبي عمر يقول: كنا عند سفيان بن عيينة فذكروا الفضل بن الربيع ودهاءه، فأنشأ سفيان يقول:
كم من قويّ قوي في تقلبه ** مهذب الرأي عنه الرزق منحرف

ومن ضعيف ضعيف العقل مختلط ** كأنه من خليج البحر يغترف

وعن نوادر أبي علي القالي أنه قال: قال أبو بكر بن الأنباري: وحدثني أبي قال: بعث سليمان المهلبي إلى الخليل بن أحمد بمائة ألف درهم وطالبه بصحبته فرد عليه المائة ألف، وكتب إليه هذه الأبيات:
أبلغ سليمان أني عنه في سعة ** وفي غنى غير أني لست ذا مال

سخي بنفسي أني لا أرى أحدًا ** يموت هزلًا ولا يبقى على حال

فالرزق عن قدر لا العجز ينقصه ** ولا يزيدك فيه حول محتال

والفقر في النفس لا في المال تعرفه ** ومثل ذاك الغنى في النفس لا المال

ولما كان جعل المملوك في رتبة المالك مما يتعاظمهم في حقوقهم مع أنه في الحقيقة لا مالك ولا مُلك، فلا يدينون لذلك ولا يدانونه وإن جل الخطب وأدى إلى ذهاب الأرواح، بل من كانت أمه مملوكة حطوا رتبته وإن كان أبوه من كان، وإن كانت العبرة عندهم في النسب بالأب، وهذا هو الذي أحوج عنترة إلى قوله:
إني امرؤ من خير عبس منصبًا ** شطري وأحمي سائري بالمنصل

إلى غير ذلك مما كان يعتذر به عن جهة أمه، نبههم سبحانه على ما وقعوا فيه في حقه من ذلك بسبب الإشراك مع أنه مالك الملك وملك الملوك بعد ما اجترؤوا عليه في تفضيل أنفسهم في نسبة البنات إليه، فقال تعالى: {فما الذين فضلوا} أي في الرزق {برادّي رزقهم} أي الذي اختصوا به {على ما ملكت أيمانهم} وإن جل نفعهم وتعاظم عندهم وقعهم {فهم فيه سواء} أي فيكون بذلك الرد المالك والمملوك سواء، فهو جواب للنفي- نقله الرمال عن ابن عباس ومجاهد وقتادة- رضي الله عنهم-
ولما وضح ذلك وضوح الشمس وظهر حتى ما به أصلًا نوع لبس، تسبب عنه الإنكار في قوله على وجه الإعراض عن خطابهم المؤذن بالمقت: {أفبنعمة الله} أي الذي لا رب غيره {يجحدون} في جعلهم له شركاء يضيفون إليهم بعض ما أنعم به عليهم، فيسوون بينهم وبينه في ذلك وبنعمتهم يعترفون ولها يحفظون في إنزال ما ملكت أيمانهم عنهم في المراتب والأموال.
ولما ذكر الخلق والرزق، أتبعهما الألذاذ بالتأنس بالجنس من الأزواج والأولاد وغيرهما اللازم له القيام بالمصالح فقال تعالى: {والله} أي الذي له تمام القدرة وكمال العلم {جعل لكم} ولما كان الأزواج من الجنس، قال: {من أنفسكم} لأن الشيء آلف لنوعه وأقرب إلى جنسه {أزواجًا} أي تتوالدون بها ويبكون السكون إليها سببًا لبقاء نوعكم {وجعل لكم} أي أيها الناس الذين يوجهون رغباتهم إلى غيره! {من أزواجكم بنين} ولعله قدمهم للشرف؛ ثم عطف على ذلك ما هو أعم فقال: {وحفدة} أي من البنات والبنين وأولادهم والأصهار والأختان، جمع حافد، يخفّون في أعمالكم ويسرعون في خدمكم طاعة وموالاة، لا كما يفعل الأجانب وبعض العاقين، وهذا معنى ما نقله الرماني عن ابن عباس- رضى الله عنهما- من أنه فسرهم بالخدام والأعوان، وهو الصواب لأن مادة حفد تدور على الإسراع والخفة.
حفد: خفّ في العمل وأسرع، والحفد- محركة: الخدم- لخفتهم، ومشي دون الخبب، والحفدة: البنات وأولاد الأولاد أو الأصهار- لذلك، وصناع الوشي- لإسراعهم فيه وإسراع لابسه إلى لبسه منبسط النفس، والمحفد- كمجلس ومنبر: شيء يعلف فيه الدواب- لإسراعها إليه، وكمنبر: طرف الثوب لإسراع حركته، وقدح يكال به- لخفته، وكمجلس الأصل- لدوران الأمور عليه وإسراعها إليه، وسيف محتفد: سريع القطع، وأحفده: حمله على الإسراع، والفادحة: النازلة، وفوادح الدهر- خطوبه- لإسراعها بالمكروه وإسراع المنزول به ومن يهمه شأنه إلى مدافعتها، ومن ذلك فدحه الأمر: أثقله- لأن المكروه يسرع فيثقل فيكثر اضطراب المنزول به.
ولما ذكر ذلك سبحانه، أتبع ما لا يطيب العيش إلا به، فقال تعالى: {ورزقكم} أي لإقامة أودكم وإصلاح أحوالكم؛ ولما كان كل النعيم إنما هو في الجنة، بعّض فقال: {من الطيبات} بجعله ملائمًا للطباع، شهيًا للأرواح، نافعًا للإشباع، فعلم من هذا قطعًا أن صاحب هذه الأفعال، هو المختص بالجلال، ومن أنكر شيئًا من حقه فقد ضل أبعد الضلال، فكيف بمن أنكر خيره، وعبد غيره، وهو باسم العدم أحق منه باسم الوجود، فلذلك تسبب عنه قوله معرضًا عن خطابهم إعراض المغضب: {أفبالباطل} أي من الأصنام وما جعلوا لهم من النصيب {يؤمنون} أي على سبيل التجديد والاستمرار {وبنعمت الله} أي الملك الأعظم {هم} وله عليهم خاصة- غير ما يشاركون فيه الناس- من المنن ما له {يكفرون} حتى أنهم يجعلون مما أنعم به عليهم من السائبة والوصيلة والحامي وغيرها لأصنامهم، وذلك متضمن لكفران النعمة الكائنة منه، ومتضمن لنسبتها إلى غيره، لأنه لم يأذن لهم في شيء مما حرموه، ولا يحل التصرف في مال المالك إلا بإذنه؛ ثم قال عطفًا على ما أنكره عليهم هناك: {ويعبدون} وأشار إلى سفول المراتب كلها عن رتبته سبحانه فقال تعالى: {من دون الله} أي من غير من له الجلال والإكرام مما هو في غاية السفول من الأصنام وغيرها {ما لا يملك} أي بوجه من الوجوه {لهم رزقًا} تاركين من بيده جميع الرزق، وهو ذو العلو المطلق الذي رزقهم من الطيبات؛ ثم بين جهة الرزق فقال تعالى: {من السماوات والأرض} ثم أكد تعميم هذا النفي بقوله- مبدلًا من {رزقًا}، مبينًا أن تنوينه للتحقير-: {شيئًا} ثم أكد حقارتهم بقوله جامعًا لأن ما عجز عند الاجتماع فهو عند الانفراد أعجز: {ولا يستطيعون} أي ليس لهم نوع استطاعة أصلًا، ولك أن تجعله معطوفًا على ما مضى من المعجَّب منه من أقوالهم وأفعالهم في قوله: {ويجعلون لله ما يكرهون} ونحوه.
ولما دحض بهذه الحجة جميع ما أقاموه من الشبه وضربوه من الأمثال فيما ارتكبوه من قولهم إن الملك لا يتوصل إليه إلا بأعوان من حاجب ونائب ونحو ذلك، ولا يتوصل إليه إلا بأنواع القربان، فعبدوا الأصنام، وفعلوا لها ما يفعل له تشبيهًا به عز شأنه، وتعالى سلطانه، لأن الفرق أن ملوك الدنيا المقيس عليهم إنما أقاموا مَن ذكر لحاجتهم وضعف مُلكهم ومِلكهم، فحالهم مخالف لوصف من لا تأخذه سنة ولا نوم، ولا يشغله شأن عن شأن، وكل شيء في قبضته وتحت قهره وعظمته، فلذلك تسبب عنها قوله تعالى: {فلا تضربوا لله} أي الذي له الإحاطة الكاملة {الأمثال} أي فتشبهوه تشبيهًا بغيره وإن ضرب لكم هو الأمثال؛ قال أبو حيان وغيره: قال ابن عباس- رضى الله عنهما ـ: أي لا تشبهوه بخلقه- انتهى.
وهو- كما قال في الكشاف- تمثيل للإشراك بالله والتشبيه به، لأن من يضرب الأمثال مشبه حالًا بحال وقصة بقصة- انتهى.
وهذا النهي عام في كل مثل لخطر الأمر خشية أن يكون ذلك المثل غير لائق بمقداره، وقد تقرر أن درء المفاسد أولى من جلب المصالح، لاسيما في هذا لأن الخطأ فيه كفر، ويدل على ذلك تعليل الحكم بقوله تعالى: {إن الله} أي الذي له الأمر كله ولا أمر لغيره {يعلم} أي له جميع صفة العلم، فإذا ضرب مثلًا أتقنه بإحاطة علمه بحيث لا يقدر غيره أن يبدي فرقًا ما بين الممثل والممثل به في الأمر الممثل له {وأنتم لا تعلمون} أي ليس لكم علم أصلًا، فلذلك تعمون عن الشمس وتلبّس عليكم ما ليس فيه لبس، وهذا المقام عال ومسلكه وعر، وسالكه على غاية من الخطر. اهـ.

.القراءات والوقوف:

قال النيسابوري:

.القراءات:

{تجحدون} بتاء الخطاب: أبو بكر وحماد. الآخرون على الغيبة. {من بطون إمهاتكم} ونحوها بكسر الهمزة وفتح الميم: عليّ. {إمهاتكم} بكسرهما: حمزة. الباقون بضم الهمزة وفتح الميم. {ألم تروا} على الخطاب: ابن عامر وحمزة وخلف وسهل ويعقوب {ظعنكم} بسكون العين: عاصم وحمزة وعلي وخلف وابن عامر الباقون بفتحها.

.الوقوف:

{في الرزق} ج لاختلاف الجملتين مع الفاء {سواء} ط {يجحدون} o {من الطيبات} ط {يكفرون} o لا للعطف {ولا يستطيعون} o ج لابتداء النهي مع فاء التعقيب {الأمثال} ط {لا تعلمون} o {وجهراً} ط {هل يستوون} ط {الحمد لله} ط لأن (بل) للإعراض عن الأول. {لا يعلمون} o {مولاه} لا لأن الجملة بعده صفة أحدهما {بخير} ط ثم لا وقف إلى مستقيم لاتحاد الكلام {والأرض} ط {أقرب} ط {قدير} o {شيئاً} لا للعطف {والأفئدة} لا لتعلق {لعلكم تشكرون} o {السماء} ط للفصل بين الاستخبار والإخبار {إلا الله} ط {يؤمنون} o {إقامتكم} لا لوقوع {جعل} على {أثاثاً} {إلى حين} o {باسكم} ط {تسلمون} o {المبين} o {الكافرون} o. اهـ.